لا تزال المواقف متباعدة بين حماس التي تركّز على وقف إطلاق النار الشامل، وانسحاب قوات الاحتلال من غزة وإغاثة المدنيين، وبين حكومة نتنياهو التي تسعى لإطلاق سراح أسراها لتستأنف بعد ذلك الحرب على غزة.
وفي ظل هذا التباعد، انتهت جولتان أساسيتان من المفاوضات على أساس وثيقة مبادئ باريس دون تحقيق اتفاق المرحلة الأولى من الوثيقة المقسمة إلى ثلاث مراحل، وهو الأمر الذي أقرّ به الطرفان، فيما أكد الرئيس الأميركي جو بايدن أن الاتفاق لم يعد من الممكن أن يتم قبل الموعد المستهدف أميركيًا، وهو شهر رمضان المبارك.
ويهمنا هنا تفكيك المواقف، وما إذا كان هناك من أمل لاتفاق في رمضان أو بعده، والشكل الممكن له في ضوء فهم مختلف أطراف المعادلة.
تضليل ومماطلة إسرائيلية
بادر نتنياهو بإعلان بيان أصدره جهاز الموساد الإسرائيلي الذي يقود رئيسه ديفيد برنياع فريق المفاوضات الإسرائيلي الذي شارك باجتماعين في باريس. وجاء في البيان: “في هذه المرحلة حماس تتحصن بموقفها كمن ليست معنية بصفقة، وتسعى إلى إشعال المنطقة خلال رمضان”.
ورغم أن هذا الإعلان لا يعكس ما جرى، فإنه قد قصد به توجيه رسالة لعائلات الأسرى بإلقاء اللوم على حماس، وإقناع الإدارة الأميركية المتحمسة لإنجاز الاتفاق قبل رمضان، بأن إسرائيل بذلت ما في وسعها لإنجاح الاتفاق، وأن من أفشله هي حماس.
وقد كشف الكاتب المعروف بن كسبيت زيف هذا الادعاء عندما كتب في معاريف: “بخلاف الانطباع الذي نشأ أمس عن “بيان الموساد” الذي نشره مكتب رئيس الوزراء، فلا يوجد توافق في كابينت الحرب في موضوع الاتصالات لصفقة المخطوفين. فضلًا عن هذا، سُمع في كابينت الحرب أمس هجوم مباشر، غير مسبوق وفظّ، على بيان الموساد وعلى نشر الرواية التي تقول إن “حماس لا تريد صفقة قبل رمضان ولم ترد على مقترح باريس، وبالتالي ليس هناك ما يمكن الحديث فيه معها”.
وأضاف: توجد هنا سلسلة من الأكاذيب”، قال لي أمس مصدر رفيع المستوى مطلع على الأمور: “يتنمرون على العائلات، يكذبون على طول الطريق ويعرضون صورة مشوهة”. سألته ما هي الصورة الحقيقية؟ فأجاب: “وضع مخطط لصفقة مخطوفين في باريس. الوفد عاد إلى البلاد وكان إجمال الأمر لرئيس الوزراء بأن ننتظر جواب حماس. الأميركيون وباقي الوسطاء وضعوا في هذه الأثناء مخططًا محسنًا. كان هذا هو المخطط رقم 2. موقف الكابينت كان أننا غير مستعدين لأن نقبل المخطط رقم 2 إلى أن يأتي جواب على المخطط رقم 1، بمعنى أن إسرائيل قالت لا”.
ويعني هذا أن إسرائيل هي التي تشددت ورفضت الاستماع لمطالب حماس وملاحظاتها على وثيقة باريس التي لم تلبِّ طموحات الفلسطينيين.
وقد أتيح للكاتب الاطلاع على الوثيقة المعدلة التي أرسلها الوسطاء لحركة حماس بعد اجتماع باريس 2، وكان أبرز معايبها عدم النص على وقف إطلاق النار، وانسحاب الاحتلال إلى الخط العازل كمرحلة أخرى، وطالبت بالسماح فقط للنساء والأطفال بالعودة لقطاع غزة، فضلًا عن عدم النص الواضح على دخول المساعدات والوقود لغزة بالكَميات التي طالبت بها حماس، والاكتفاء بالتأكيد أن تصل هذه الكميات إلى الذروة المطلوبة بنهاية المرحلة الأولى التي تمتد لـ 42 يومًا. بالإضافة إلى أن الوثيقة قدمت معادلة تبادل الأسرى على أساس 10 إلى 1.
ويشكل اعتماد مطالب حماس الإنسانية في هذه الوثيقة مكسبًا لحماس بإلزام الكيان بإدخال المساعدات وبكثافة بعد طول تشدد في الموضوع، هذا فضلًا عن رغبة نتنياهو في تخفيف الضغوط عليه من قبل إدارة بايدن.
أما بخصوص وقف النار خلال المرحلة الأولى، فقد نصَّت الوثيقة على وقف تحليق طيران الاستطلاع خلال هذه المدة، لمدة 8 ساعات فقط، وهو ما رفضته حماس؛ لأنه يناقض الوقف الكامل للنار (الهدنة).
وقد قدمت حماس ردها على الوثيقة عندما زار وفدها القاهرة، وتضمن التأكيد على مطالب الحركة مع إبداء المرونة اللازمة في معادلة الأسرى، والتأكيد على السماح للراغبين في العودة للشمال دون تمييز، إضافة لمطلب التعهد بالانسحاب الكامل ووقف إطلاق النار.
وقد أكد ذلك رئيس حركة حماس، إسماعيل هنية في خطاب متلفز على الجزيرة عن ضوابط المفاوضات، وهي التي لم تستجب لها حكومة نتنياهو حتى الآن، وأهمها وقف إطلاق النار، فيما أكد أن الحركة إذا تسلمت موقفًا واضحًا بوقف العدوان وعودة النازحين “فسنبدي مرونة بشأن موضوع الأسرى”، مشيرًا إلى عقبة استمرار الاحتلال في محور الشهداء، وتقطيع قطاع غزة نصفين.
لا اتفاق قبل رمضان
من الواضح أن المفاوضات لم تصل لخط النهاية، ولكنها لم تصل لاتفاق ضمن إطار المهلة الزمنية التي سعى لها الطرف الأميركي، وهو إطار مهم وحساس لإدارة بايدن في ضوء الضغوط التي تتعرض لها من قواعدها الانتخابية، خصوصًا في صفوف الشباب، ومؤيدي الحزب من المسلمين الذين تشكل أصواتهم في بعض الولايات بيضة القبان في المواجهة مع ترامب.
وليس هذا فقط، فإن سمعة إدارة بايدن باتت على المحك، مع استمرار حكومة المتطرفين باستهداف المدنيين، وتوجه حكومة نتنياهو لاجتياح رفح والتسبب بمجازر ستدمر ما بقي لبايدن من سمعة، إذ تعتبر هدنة رمضان حساسة لمشاعر المسلمين الأميركيين.
أما الجانب الآخر الذي لا يقل أهمية عن ذلك، هو رغبة إدارة بايدن في تبريد الصراع خلال شهر رمضان، حتى لا يؤدي استمرار العدوان الإسرائيلي، بالإضافة لحملة التجويع لأهالي القطاع إلى استثارة الفلسطينيين في الضفة والقدس والـ 48، واستفزاز العرب والمسلمين، وتحفيز إيران وحلفائها في المنطقة لتصعيد الصراع، بما يشكل خطرًا حقيقيًا يهدد مصالح واشنطن في المنطقة، ويضر بإستراتيجيتها للانسحاب منها لصالح التصدي للخطر الصيني، والتعامل الكفؤ مع الحرب الروسية الأوكرانية.
ولو رجعنا لمطالب المقاومة ذات السقف المرتفع، ومدى معقوليتها في ضوء الوضع الميداني، فإن جيش الاحتلال وباعتراف قادته أنفسهم يواجه حربًا شرسة، ويقول؛ إن مهمته على الأرض لم تنجز، وإن هناك كتائب مقاتلة لا تزال تعمل في خان يونس، فضلًا عن اشتداد الهجمات على قوات الاحتلال في شمال غزة والمدينة نفسها.
بالإضافة للتقديرات العسكرية للمخابرات الأميركية نفسها بأن قدرات حماس وأنفاقها لا تزال تعمل بفاعلية. وهذا يعني أن قيادة حماس السياسية تقف على أرض صلبة عندما تفرض شروطًا عالية (مع الاحتفاظ بالمرونة المناسبة)، حيث لم تهزم قوات حماس في الميدان، فيما لا تزال قيادتها العسكرية تتمتع بالتحكم والسيطرة، في ظل فشل الاحتلال في قتل أي من قياداتها، أو فرض شروط الاستسلام عليها، أو دفعها للموافقة على الترحيل خارج البلاد.
مع صعوبة التكهن بمصير المفاوضات، إلا أن نتيجتها سترتبط بميزان القوة على الأرض، والذي لا يزال غير راجح للاحتلال، بل ويشجع المقاومة على التمسّك بمطالب لا تتناقض مع أهداف “طوفان الأقصى”
رغبة بالإفشال
أما بالنسبة للاحتلال، فرغم أنه يحتفظ بحرية حركة في غزة، فإنه يفشل في تحقيق أهداف الحرب، فيما تواجه قواته إرهاقًا وحاجة لإعادة تنظيم صفوفها، فضلًا عن القيود الأميركية الغربية التي تحول دون الدخول سريعًا إلى رفح وتشكيل عامل ضغط على حماس لكي تخفف موقفها في المفاوضات.
ولهذا، فإن عامل التشدد في الموقف الإسرائيلي ليس نابعًا من قوة على الأرض، وإنما بسبب قرار سياسي من نتنياهو الذي يؤيد استمرار الحرب بدون ثمن، ورضوخه لضغوط بن غفير وسموتريتش اللذين يهددان بإسقاط التحالف الحكومي إن تم التوصل لوقف النار بدون القضاء على حماس.
لا تبدو المعادلة في الميدان راجحة للاحتلال بما يكفي لفرض شروط عالية على المقاومة، حيث تبدو المعادلة أقرب إلى التوازن بين جيش يحتل غزة، ومقاومة فاعلة تمنعه من تحقيق أهدافه، وتلحق به خسائر فادحة تمنعه من امتلاك السيطرة على الأرض التي يقف عليها.
يبقى الموقف الأميركي عاجزًا عن ممارسة ضغوط على حكومة نتنياهو، رغم القناعة بأن الاحتلال فشل في تحقيق أهدافه، بل وإنه يمكن التعايش مع حماس، بما يتطلب إنجاز صفقة شاملة معها، تفضي في النهاية إلى انسحاب إسرائيلي كامل من غزة، والدخول في مرحلة ما بعد الحرب التي تقتضي تطبيق تصور الدولة الفلسطينية كهدية تقدم للسعودية لإقناعها بتطبيع العلاقات مع الكيان.
لذلك، ترى واشنطن أن هذه الحكومة تشكل عائقًا أمام تطبيق هذه الرؤية، ولكنها تقف عاجزة عن إحداث تغيير في مواقفها.
مفاوضات وصراع مستمران
خلاصة المشهد، أن القتال مستمر على الأرض، فيما تستمر المفاوضات بدون توقف.
ومع دخول شهر رمضان، فإن الصراع مرشح للتصعيد في الضفة والقدس، وهو ما يشكل رافعة لغزة لاستمرار المقاومة، بما قد يجعل من عدم إنجاز اتفاق الهدنة قبل رمضان إيجابيًا أكثر منها سلبيًا، وإن كان أيضًا يخدم خط نتنياهو المتشدد على المدى القصير.
وقد يساهم الخط البحري الأميركي لنقل المساعدات للفلسطينيين على ما فيه من عيوب واعتبارات لا علاقة لها بمصلحة الفلسطينيين، في تخفيف عبء حاجات الناس التي دفعت المقاومة للتساهل في بعض المطالب مقابل تأمين الإغاثة والمساعدات للفلسطينيين!
كما أن استمرار الصراع وربما تصاعده، سيبقي قوات الاحتلال في شمال فلسطين في حالة اشتباك دائم مع المقاومة اللبنانية والفلسطينية من لبنان، فضلًا عن استمرار إنهاك الأميركيين في البحر الأحمر، وكل هذا يجري عكس ما أرادته الإدارة الأميركية.
ومع صعوبة التكهن بمصير المفاوضات، إلا أن نتيجتها سترتبط بميزان القوة على الأرض، والذي لا يزال غير راجح للاحتلال، بل ويشجع المقاومة على التمسّك بمطالب لا تتناقض مع أهداف “طوفان الأقصى”، وتؤدي إلى استمرار مفاعيل الخلافات داخل الكيان بين المستويين السياسي والعسكري، وتصاعد حالة الاحتجاج من قبل أهالي الأسرى الذين لا يزالون يقضّون مضجع نتنياهو ويضغطون عليه لإنجاز صفقة الأسرى، خصوصًا مع استمرار إعلانات كتائب القسام عن مقتل أسرى الاحتلال لديها؛ نتيجة القصف الإسرائيلي، حيث تحدثت عن مقتل نحو نصف الأسرى لديها حتى الآن!
وبدون شك، فإن استمرار تصاعد وتيرة الضغوط الأميركية، وارتكاب الكيان المزيد من المجازر، كما جرى في مجزرة الطحين بغزة أو نتيجة توسيع العدوان، والإعلان عن مقتل المزيد من الأسرى، سيزيد كل ذلك الضغط على نتنياهو لإنجاز الصفقة، أو مواجهة هزّة في حكومته قد تؤثر على مستقبله السياسي، ما لم يقم بمناورة جديدة تبقيه على رأس الحكم.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.